غادر المشيعون المكان الذي توارى فيه جثمان أسطورة أزمان الكرة عمو بابا ، ورفعت مجالس العزاء صوره ولافتات الاستذكار من جدران حفلاتها التأبينية وراح المنقبون عن سيرة عمو بابا يجهزون أوراق اعترافات جديدة يضمونها في كتب أرشيفية لم تعد تحاكي انجازاته وبطولاته وما أكثرها فحسب ، بل تخصص فصلا مهما عن لسانه ولسان من عايش مرحلة معاناته مع المرض الذي اشتد عليه منذ عام 2005 يوم بُتر اول أصبع من قدمه مُنذراً ببداية النهاية لجسد نخر عظامه ( السكري) وقضى عليه رويداً رويداً حتى انقطع النفس الأخير بعيداً عن اهله وداره ، وهنا بيت قصيدنا .
الجميع انشغلوا كيف يخلّدون عمو بابا بعد رحيله ، وماذا يستجمعون من أرشيفه ، وما شكل النصب التذكاري الذي يستحقه ، هل ستكون المنطقة المحيطة بقبره مكاناً مناسبا لبناء قبة صغيرة تضم متحفاً لائقا برحلته مع الكرة على مدى نصف قرن؟
أسئلة كثيرة راودت الاعلاميين والجماهير المحبة لعمو بهذا الشأن لما لمكانته ورمزيته بين العراقيين كنخلة باسقة امتدت جذورها الطيبة الى جميع انحاء مدن العراق ، لكن لم يفكر احد منا ويسأل عن داره الموحشة في منطقة ( زيونة) من لها ، وما مصيرها بعد ان عاش فيها عمو بابا عصفورا جريحا افتقد حنان الزوجة ولهفة الأولاد اليه عند مغادرته وعودته ، كلهم هجروا الوطن منذ عقد ونصف ، تركوه يمارس طقوس الوفاء الجميل لهوى العراق ، كيف لا وقد وصفه احد الشعراء المغتربين : بالنهر الثالث الذي ينبع من القلب الى القلب .
نعم ان دار عمو بابا بحاجة الى التفاتة من الحكومة ونقترح ان تقوم وزارة الشباب والرياضة او اللجنة الاولمبية الوطنية او الاكاديمية الاولمبية بمفاتحة الجهات ذات العلاقة لشراء الدار واستثماره كمتحف ومَعلم بارز يذكر الاجيال بمرور الزمن عن معجزات عمو بابا مع الكرة والاندية والمنتخبات يوم كان لاعبا ومدربا ، ودروسه في التشبث بارض الوطن حتى الرمق الاخير ، وبالتأكيد ان هيبة المكان ومقتنيات الراحل الشخصية وانفاس ولائه للارض التي تملأ كل زاوية ومرفق في الدار تمنح الزائرين لها شعوراً واقعيا لا يحتمل الانفصال الوجداني بين مآثر الأسطورة قبل وبعد الممات .
وللأمانة فان المؤرخ الرياضي د. ضياء المنشىء سرنا اثناء زيارته لـ( المدى) بان عمو بابا كان يفكر ببيع الدار قبل ان تباغته المنية بأسابيع ،وكان قد شكا له عن معاناة عائلته في فرنسا وحاجتها الى المال في ظل الازمة الاقتصادية التي تعانيها اوروبا – على وجه الخصوص - وكذلك قلقه وخوفه على ( ام سامي) التي دخلت في الغيبوبة اثر سقوطها على رأسها من سلم الشقة وحاجتها الى تكاليف باهظة للعلاج في احد مشافي باريس، الامر الذي شكّل ثقلا كبيراً على رأس عمو بابا لم يحتمل ضغوطه النفسية وعجل برحيله متأثراً بعجزه عن توفير الدعم المادي للابن والزوجة ، ناهيك عن آلامه التي لم تبرحه يوما وهو يرى جفاء من لا وفاء لهم نحوه بعد ان قدمهم على طبق الشهرة فأطعموه علقم الجحود!
حقيقة ان عمو مات فقيرا ، ولم ينل مردودا ماديا يوازي ما قدمه للعراق من جهد وسهروخوف وتضحية كبيرة كاد يدفع في احد المرات حياته ثمنا لعمله المخلص بعد ان حاربه اكثر من مسؤول لم يرق له نجاحاته الباهرة وخروجه منتصراً في اكثر من موقعة كروية لم تسعفه فيها سوى غيرته على الوطن واجتهاده في الوقوف نداً عتياً امام اشهر المدربين العالميين .
وأخيرا.. اذا كان ثمن حذاء رياضي ارتداه نجم الكرة العراقية السابق فلاح حسن في كأس الخليح العربي الخامسة ببغداد عام 1979 قد بيع في مزاد علني اقيم في مدينة الحلة العام الماضي بـ( 800) الف دينار ، ترى كم ستبلغ قيمة نظارة و( تي شيرت) وكؤوس واوسمة وهدايا وكرة قدم هزم بها عمو بابا المدرب البرازيلي والعالمي زاغالو في خليجي مسقط عام 1984 ، وغيرها من المقتنيات الثمينة – معنوياً - التي بحوزته لو خصص ريعها لعائلته في المهجر ؟
ومضة: قطرات الماء القليلة قد تصنع جدولا!
بدر العراقي
موضوع: نظارات عمو بابا بلمزاد... 
الجمعة يونيو 12, 2009 1:17 am